الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
بما يدل على اعتباره عقيدة وهو كذلك، ولكنه لا ينفي إثم عدم التعليم، قال صلّى اللّه عليه وسلم:طلب العلم فريضة على كل مسلم- ويشمل ذلك كل مسلمة- حتى أن اللّه تعالى استثنى طالب العلم من الجهاد وهو أحد أركان الدين، راجع الآية 134 من سورة التوبة في ج 3 {قالَ} لهم إبراهيم عليه السلام {أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي} وحد الخبر على إرادة الجنس وسمى الأصنام أعداء وهي جمادات استعارة، لأنهم نزولها منزلة العقلاء وقال عليه السّلام {لي} تعريضا لهم لأنه أنفع في النصح من قوله عدو لكم ليكون أدعى للقبول، ولأنهم على هذا يقولون ما نصحنا إلا بما نصح نفسه وما أراد لنا إلا ما أراد لنفسه، ولو قال لكم لم يكن بتلك المثابة كما لا يخفى على بصير.ومن هذا القبيل الآية الآتية من سورة يس المارة إذ أضاف القول فيها لنفسه وهو يريدهم.حكي أن الشافعي رحمه اللّه واجهه رجل بشيء فقال له لو كنت بحيث أنت لا حتجت إلى أدب.والعدوّ والصديق يجيئان بمعنى الواحد والجماعة قال تعالى: {وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} الآية 51 من سورة الكهف في ج 2 والصنم ما كان على صورة ابن آدم من حجر أو غيره، والوثن يطلق على كل ما يعبد من دور اللّه ناميا أو غير نام حساسا أو غير حساس، فهو أعم من الصنم، ثم استثنى مما عمم فقال: {إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ} استثناء منقطعا لعدم دخوله تحت لفظ الأعدا أي لكن رب العالمين ربي ووليي المستحق للعبادة {الَّذِي خَلَقَنِي} من العدة ووفقني لدينه القويم {فَهُوَ يَهْدِينِ} إلى طريق النجاة هداية تدريجية من الولادة إلى الوفاة، أولها هدايته إلى مصّ الثدي وآخرها إلى الطريق الموصل إلى الجنة، وما بينهما إلى جلب المنافع ودفع المضار {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي} مما خلقه لي من الأرض وأنزله من السماء من غير حول لي ولا قوة {وَيَسْقِينِ} من الماء الذي ينزل من السماء فيسلكه في الأرض التي هي أصله {وَإِذا مَرِضْتُ} أسند المرض له عليه السّلام تأدبا مع ربه.
وقال بعض الحكماء لو قيل لأكثر الموتى ما سبب آجالكم، لقالوا من التخم، وكثير من الناس لا يرون المرض إلا مرض الموت ويكون أيضا ممّا ذكر إلا القتل أو التردي أو التسمم والحرق والغرق وشبهه، وكل ذلك بتقدير اللّه تعالى وإرادته ليقع قضاؤه حيث قدره، وقد راعى عليه السّلام حسن الأدب بهذا وبغيره، حتى أنه لم يقل أمرضني، ولا آدب من الأنبياء، لأن الذي نبأهم هذّبهم {فَهُوَ يَشْفِينِ} لأن الشفاء نعمة منه والمنعم بكل النعم هو اللّه وحده، وهكذا الخلص ينسبون الخير إلى اللّه والشرّ لأنفسهم، قال الخضر عليه السّلام {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها} وقال: {فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما} ولهذا البحث صلة في تفسير الآية 78 من سورة النساء في ج 3 وكذلك مؤمنو الجن راعوا الأدب مع ربهم، راجع الآية 10 من سورة الجن المارة فما بعدها {وَالَّذِي يُمِيتُنِي} بانقضاء أجلي في الدنيا، ولا يرد إسناد الموت للّه على ما قلنا، لأن الفرق ظاهر ولأن الموت قضاء محتم لابد منه {ثُمَّ يُحْيِينِ} في الآخرة وهذا تعليم لهم بالاعتراف بالبعث بعد الموت.{وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي} هي قوله لقومه حين أرادوه أن يذهب معهم إلى بيت الأوثان {إِنِّي سَقِيمٌ} وقوله حينما سألوه عمن كسر أصنامهم {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا} وقوله للجبار حين سأله عن سارة قال أختي وأراد أخته في الدين وإلا فهي زوجته، وقد عدها خطايا بالنسبة لمقامه الشريف وقربه من ربه، وإلا فليست بخطايا وإنما هي من معاريض الكلام لدى غير الأنبياء، وقد يعدها العارفون الكاملون خطايا أيضا بالنسبة لمقامهم، لأنهم على قدم الأنبياء، وعلى حد حسنات الأبرار سيئات المقربين، وهؤلاء يسمون أمثالها خطايا تواضعا لربهم وتعظيما لأنفسهم، وتعليما للغير بطلب المغفرة عما صدر منهم، {يَوْمَ الدِّينِ} الذي يدان به الناس عما عملوه في دنياهم فيجازون عليه، روى مسلم عن عائشة قالت قلت يا رسول اللّه: ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويقري الضعيف وبطعم المسكين أكان ذلك نافعا له؟ قال لا ينفعه إنه لم يقل يوما {رب اغفر لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ}.وفي هذا كله يشير عليه السّلام إلى قومه بأنه لا يصلح للالهية إلا من يفعل هذه الافعال ولما أيس منهم باعلام اللّه تعالى إياه هجرهم ونحى نحو ما أمره به ربه وقال: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا} لأستعد به لخلافة الحق ورياسة الخلق {وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} الأنبياء قبلي في درجتهم ومنزلتهم عندك {وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} من بعدي بأن أذكر لديهم بخير من ثناء حسن وحسن سمعة، وقد أجيبت دعوته لأن أهل الأديان يثنون عليه خيرا ويعظمونه وكل أمة تحبّه، وذكر اللسان بدل القول لأنه يكون به ولا حاجة لتقدير مضاف أي صاحب لسان كما قاله بعض المفسرين، لأن الثناء يكون باللسان وغيره قال: والجزء يطلق على الكل: ويحتمل أن يراد بالآخرين أمة محمد صلّى اللّه عليه وسلم، لأنه من ولده ويدعو الناس إلى ملته ودينه المشار اليه في قوله تعالى {وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ}، ويستدل من هذه الآية ان لا بأس ان يحب الرجل الثناء عليه، لأن فيه فائدة لاسيما بعد الموت، إذ تجود عليه رحمات ربه بترحم الناس عليه، عند ذكر أوصافه وأفعاله الممدوحة، الا انه لا يخفى ان الأمور بمقاصدها، وانظر قول صلّى اللّه عليه وسلم من أحب ان يتمثل له الناس قياما فليتبوأ مقعده من النار، مع ورود الخبر عنه صلّى اللّه عليه وسلم قوموا لسيدكم، وقد قيد العلماء القيام لأهل الفضل والأكابر، ولكن الأعمال بالنيّات فعلى المتأدب أن يقوم لمن هو أهل للقيام، وعلى من يقام له أن لا يحب ذلك {وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ} الباقين فيها كما يقيده معنى ورثة لأن البقاء فيها هو السعادة الكبرى والنعمة العظمى {وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ} طريق الهدى.
|